هل علينا أن نتوقع الموت في خضم أزمة فيروس كورونا المستجد؟
مرت البشرية بفترات عصيبة في تاريخها، كانت فيها الأوبئة والحروب تهدد الوجود البشري، وتجعله يتأرجح بين الحياة والموت. ومع ظهور جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” في نهاية عام 2019، دخل العالم في مرحلة جديدة من الاضطراب، تمزج بين الخوف، والقلق، والتحديات الطبية والاجتماعية. في ظل هذا الوضع، أصبح السؤال عن الموت أمرًا مثيرًا للجدل، في حين كان الفيروس ينتشر بسرعة، مسبّبًا آلاف الإصابات والوفيات حول العالم.
ولكن هل من الضروري لنا أن نتوقع الموت في خضم هذه الأزمة الصحية العالمية؟ وهل يحمل فيروس كورونا تحديات تتجاوز مجرد الإصابة والشفاء؟ هل يمكن أن يهدد حياتنا بشكل غير مسبوق؟ في هذا المقال، سوف نستعرض كل هذه الأسئلة من منظور علمي واجتماعي ونفسي، مع تحليل آثار الجائحة على حياتنا بشكل عام.
أولاً: الوباء والموت: هل هو محتمٌ؟
قبل التطرق إلى أهمية التوقع أو الاستعداد للموت في سياق جائحة كورونا، لا بد من التفريق بين الموت المحتمل والخوف المبالغ فيه من الإصابة بالفيروس. فيروس كورونا هو مرض يسببه فيروس من عائلة كورونا، وقد ظهرت بعض السلالات الأكثر ضراوة، مثل “دلتا” و”أوميكرون”، ولكن المؤشرات العامة تشير إلى أن نسبة الوفاة من هذا الفيروس تتفاوت حسب العمر، والصحة العامة للفرد، والحالة الطبية السابقة. على الرغم من أن هناك العديد من الأشخاص الذين أصيبوا بالفيروس ولم يعانوا من أعراض خطيرة أو حتى من أعراض على الإطلاق، فإن البعض الآخر عانى من مضاعفات شديدة أدت إلى الوفاة.
بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة أو لديهم ضعف في جهاز المناعة، كانت الإصابة بالفيروس أكثر خطورة، مما يجعل احتمال الوفاة أكبر. في المقابل، أظهرت الإحصائيات العالمية أن حوالي 95% من المصابين بالفيروس لا يعانون من مضاعفات مميتة. هذه الأرقام تعطينا منظورًا واقعيًا يمكن أن يقلل من القلق المستمر حول الموت بسبب الفيروس.
إلا أن المشكلة لا تكمن فقط في هذه الأرقام؛ بل في التجربة النفسية العميقة التي يمر بها الأفراد والمجتمعات نتيجة للجائحة. ومع الانتشار السريع للفيروس والمعلومات المتضاربة، أصبح الخوف من الموت هو السمة الغالبة على المشهد العام، حيث بدأ الكثيرون في التوقع بأن النهاية قد تكون وشيكة.
ثانياً: الموت في سياق الوباء: الخوف الجماعي
إن الفزع من الموت في أوقات الأوبئة ليس ظاهرة جديدة على البشرية. على مر العصور، كانت الأوبئة الكبرى مثل الطاعون والكوليرا تتسبب في نشر الخوف بين الناس، وتفشي الهلع في المجتمعات. ومع ظهور جائحة كورونا، تجدد هذا الخوف، ولكن هذه المرة في شكل مختلف تمامًا؛ حيث لعبت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا مهمًا في تعزيز هذه المخاوف. الأخبار المتواصلة عن حالات الوفاة، وتسجيل أرقام قياسية من الإصابات، جعلت الناس يظنون أن الموت قد أصبح أمرًا لا مفر منه في ظل هذه الأزمة.
لكن في حقيقة الأمر، نجد أن هذا الخوف الجماعي له تأثيرات نفسية عميقة. فقد أثبتت الدراسات النفسية أن الشعور بالخوف الجماعي يمكن أن يخلق جوًا من الهلع الاجتماعي، مما يدفع الأفراد إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية. على سبيل المثال، قد يكثر الناس من شراء الأدوية أو المكملات الغذائية بشكل غير مبرر، أو حتى يصبحون أكثر عرضة للمشاعر الاكتئابية بسبب الخوف المستمر من العدوى.
من جهة أخرى، وُجد أن التأثيرات النفسية السلبية للجائحة على الأفراد قد تؤدي إلى نتائج مدمرة للصحة العامة. فالأشخاص الذين يعانون من القلق المستمر من الموت قد يواجهون اضطرابات في النوم، وفقدان الشهية، واضطرابات نفسية أخرى مثل الاكتئاب أو نوبات الهلع.
ثالثاً: الموت الرمزي: التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية
بجانب الموت الفعلي الذي يسببه الفيروس، يمكن أيضًا أن نتحدث عن ما يمكن تسميته بـ “الموت الرمزي” في سياق أزمة كورونا. وهذا يشمل التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية التي أحدثتها الجائحة في حياة الناس. في الواقع، لم تقتصر تداعيات الجائحة على الصحة فقط، بل امتدت لتطال الاقتصاد العالمي، حيث شهدت العديد من الدول تدهورًا اقتصاديًا غير مسبوق، مع ارتفاع معدلات البطالة، وانهيار الكثير من الأنشطة التجارية، خصوصًا في القطاعات التي تعتمد على التواصل المباشر مثل السياحة والمطاعم. وهذا بدوره أثر على الروح المعنوية للمجتمعات، حيث شعرت أعداد كبيرة من الناس بأن حياتهم قد تغيرت بشكل جذري، وأصبحوا يتعاملون مع تداعيات الأزمة وكأنها شكل آخر من أشكال الموت الاجتماعي.
من الجدير بالذكر أن هذه التأثيرات لا تقتصر على البالغين فقط، بل تشمل الأطفال والشباب أيضًا. فقد أكدت الدراسات أن الكثير من الأطفال الذين نشأوا في ظل جائحة كورونا أصبحوا يواجهون مشاكل اجتماعية ونفسية، مثل العزلة الاجتماعية، وفقدان الروابط الاجتماعية الهامة، وزيادة الشعور بالفراغ، وهو ما يساهم في خلق نوع من “الموت الاجتماعي” الذي يهدد الصحة النفسية للأجيال القادمة.
رابعاً: مواجهة الموت: كيف يمكن للناس أن يتعاملوا مع الخوف؟
في مواجهة هذا الواقع الصعب، يصبح السؤال كيف يمكن للناس أن يتعاملوا مع الخوف من الموت؟ هل يجب علينا أن نعيش حياتنا وكأنها ستكون الأخيرة؟ أم ينبغي أن نركز على الوقاية والحفاظ على صحتنا الجسدية والنفسية؟ في هذا السياق، يمكن القول إنه من المهم جدًا أن نكون واعين للتحديات التي يفرضها الوباء على حياتنا، ولكن من دون أن نغرق في الخوف.
من أهم الخطوات التي يمكن أن تساعد الأفراد في التغلب على هذا الخوف هي التركيز على تقوية الصحة النفسية من خلال ممارسة التأمل، والتمارين الرياضية، وتنظيم نمط الحياة. علاوة على ذلك، يجب على الأفراد أن يحاولوا تحصيل المعرفة الكافية حول الفيروس وطرق الوقاية منه، مما يساهم في تخفيف القلق المبني على الجهل.
كذلك، من المفيد أن يركز الناس على بناء الروابط الاجتماعية، حتى وإن كانت عن بُعد، لأن الدعم الاجتماعي له تأثير كبير في تحسين الصحة النفسية وتخفيف مشاعر العزلة والقلق.
خامساً: دروس من الجائحة: الحياة في مواجهة الموت
بالرغم من كل الصعوبات التي فرضتها جائحة كورونا، إلا أن هذه الأزمة علمتنا الكثير عن الحياة والموت. فقد أظهرت الجائحة مدى هشاشة حياتنا البشرية، وأن الموت، مهما كان مؤلمًا، هو جزء لا مفر منه من هذه التجربة الإنسانية. ومع ذلك، تعلمنا أيضًا أن الحياة لا تقتصر فقط على البقاء على قيد الحياة الجسدية، بل على كيفية مواجهة التحديات، كيف نعيش بحكمة، وكيف نعيش بأمل.
لقد علمتنا جائحة كورونا أنه يمكننا التعايش مع فكرة الموت، ولكن دون أن نغرق في الخوف منها. إن ما يهم هو كيفية استثمار حياتنا في إحداث فرق، في تحسين الذات، وفي تكوين علاقات ذات مغزى مع الآخرين. ربما كانت هذه الأزمة بمثابة تذكير للبشرية بأن الحياة قصيرة، وأن أفضل ما يمكن أن نفعله هو أن نعيشها بكل ما فينا من طاقة وأمل.
